لكن لا هي عاشت «19 ربيعاً»، ولا المعاناة والألم والغدر التي لاحقتها استغرقت «19 عاما» فحسب، فمن الطبيعي أن نمر جميعنا بلحظات مظلمة، لكنها لا تستمر لساعات أو أيام أو شهور.. لكن الفتاة الضحية التي ترمز لاسمها بـ «رزان» وتحتفظ «رؤى» باسمها الحقيقي عاشت كل حياتها في وحدة وظلام ودموع على أرصفة الحرمان.. قصة لم تبدعها السينما ولم تصغها الدراما، بل تجسدت فصولها واقعا مريرا عاشت «رؤى» بعض فصوله، وتعرفت إلى نذر يسير من مأساة فتاة سعودية شاءت أقدارها أن تعيش أسيرة أحزانها، هاربة إلى أقدارها أيضا.. تعالوا نتعرف إلى بعض التفاصيل.
انعطفت الشمس خلف الجبال لتستعد السماء لميلاد يوم جديد، لكن ساعات المغيب تطول على من يكابد الألم، وسكون الليل يرعب القلوب الغضة، في تلك اللحظات التقت سيدة بفتاة في سن الزهور، وحيدة وسط لفيف من النساء، كان الألم هو العنوان الرئيسي الذي يغلف ملامحها، استرعى انتباه السيدة بشدة ملامح الألم والحزن والحسرة المحفورة بشتى صورها على وجه الفتاة التي كانت منزوية بأحد أركان مصلى نسائي في مدينة جدة، اقتربت منها السيدة، نظرت إليها بحنان كما لو كانت تنظر إلى قطة وديعة جريحة تبحث بنظرات عينيها عمن يداويها ويمنحها الحنان، أو قطعة خبز تطفئ حرقة الجوع والظمأ، اقتربت السيدة من الفتاة «ب. ز» وبادرتها الحديث قائلة: لماذا أنت هنا يا ابنتي؟ ومن تنتظرين؟ وماذا أصابك؟ وجدت الفتاة العطف والحنان بوجه تلك السيدة، وزلزلت كيانها كلمة «ابنتي»، التي نزعت من قلبها الخوف، فاندفعت تروي قصتها.
حبيسة الأحزان
استمعت السيدة إلى قصة الفتاة، تألمت لها بشدة، وأعطتها مبلغا من المال وأخذت رقم هاتفها النقال حتى تستطيع التواصل معها، وفي مساء اليوم التالي حكت السيدة لأحد أقربائها وهو مستشار قانوني لكي تساعد الفتاة الوحيدة وتستفيد من مشورته، وبدوره اتصل بمجلة «رؤى» ليخبرها القصة حتى تنتهي تلك المأساة وتكون بداية النهاية ويجدون حلا لها، فبادرت محررة «رؤى» بمتابعة القضية منذ هذه الليلة، فاتصلت بالفتاة وهدأت من روعها، ومن ثم استقبلتها في ضحى اليوم التالي في مقر المؤسسة لمتابعة حالتها، وتقديم الواجب لها.
ضحية مجتمع
كان الإرهاق بادياً على الفتاة بشدة، لما مشته من مسافات طويلة، وسهر متواصل، ثيابها المتسخة وحذاؤها البالي كانت تكشف عن جانب مما كابدته طيلة الأيام الفائتة.. وبعد فترة من التمهيد الإنساني لتشعر الفتاة بالأمان، سألتها المحررة عن قصتها، لتخبرها بكل خجل وخوف ونظرات انكسار وابتسامة طفولية أنها ضحية مجتمع بأسره، عانت من الحرمان والألم المتكرر طيلة خمسه أعوام.. وبحيرة شديدة قالت: لا أعلم سبب وجودي في هذه الحياة، هل أنا مذنبة حتى أصبحت حجراً يطأه كل عابر سبيل؟ كم فكرت بالانتقام والانتحار للتخلص من عذاب ضمير لا يعلم طريقا إلى الله سوى مناجاته في الخفاء، لينزف قلبي مع جسدي المنتهك بغير وجه حق من بشر على هيئة كلاب نجسة، لأصبح نجسة مثلهم.
بداية المأساة
بدأت قصتي بعد بلوغي عامي الثاني بوفاة والدتي وتحمل جدتي لأمي الطاعنة في العمر مسؤوليتي، لكن لم يدم ذلك سوى عامين، إذ توفاها الله فعدت إلى والدي الذي كان سبب شقائي ومصيبتي، كان والدي في بداية حياتي مثل جميع الآباء المحبين لأبنائهم، قبل أن يصبح شيطانا على هيئه بشر.
تكمل «رزان» بانكسار ودموع تحرق وجنتيها: تزوج والدي من سيدة من جنسية عربية كانت بداية مشواري للهلاك والتشرد، حيث حرمت من والدي وتغيرت معاملته لي، حتى أصبح يضربني ويحرمني من أبسط حقوقي، وانساق خلف المسكرات والمخدرات حتى أصبح لا يفوق أبدا، فحرمني من الدراسة في مرحلة مبكرة، وكانت معاملته وزوجته هي القسوة متجسدة.. وحينما استبدت بي الأحزان قررت الهرب!.
جهنم الأسرة
تصمت الفتاة لحظات بعدما خنقتها العبرات دون أن تنطق عن سبب هروبها مع إلحاح «المحررة» على معرفة السبب لتنطق بالكارثة التي لا يصدقها عقل ولا دين: «كان والدي يعتدي عليّ تحت تأثير المخدر وهو سبب فض بكارتي» كسر الباب عليّ ذات يوم بعد أن حبست نفسي داخل حجرتي وسكب الماء الساخن عليّ، حتى هربت خوفا من وقوع مصيبة أكبر وأنا أحمل طفلاً منه.
وبكل أسى وجرح تضيف «رزان»: المصيبة أن زوجته علمت بالأمر ولم تدافع عني، بل كانت تمنع طفليها من الاقتراب مني وكأني لست أختهما، حيث قررت الذهاب إلى بيت عمي الأكبر وكان شيخا كبيرا أهلكته الأمراض، ذهبت بحثا عن الأمان لكن للأسف كنت محطا لرغبة ابنه الأكبر، فقررت العودة إلى والدي وتكررت مأساتي معه، عندها قررت اختيار الشارع بعيدا عن جهنم الأسرة.
هروب من نذل
بعد مرور 4 ساعات متواصلة من الحديث طلبت الفتاة من «المحررة» أخذ قسط من الراحة، مؤكدة أنها لم يغمض لها جفن منذ ليلتين متواصلتين، وقد سكن خوفها وشعورها بالأمان وسط مقر المؤسسة لأنها تعرضت لموقف فجر ذلك اليوم من أحد الشباب المرتادين للبحر، حيث عرض عليها أن يوصلها، وحينما قبلت لعدم امتلاكها مالا، متوقعة منه نوايا حسنة، لكنها حينما توقف عند محطة بنزين سمعته يتصل بأحد أصدقائه ويخبره بأنه سيحضر صيداً ثمينا لهم، وما إن وضع عامل المحطة خرطوم البنزين حتى أطلقت ساقيها للريح، مواصلة رحلة الهروب.